بعض المجتمع النقابي يسترد عافيته.. مفاهيم ملتبسة

بعض المجتمع النقابي يسترد عافيته.. مفاهيم ملتبسة
سيف الدين عبد الفتاح 28
عربي 21
تناولنا في مقالة سابقة علاقة دولة نظام الثالث من يوليو بالمجتمع المدني، ووسائلها التي لا تنتهي لتأميم ومحاصرة المجتمع المدني وقلب وظائفه ودوره ومحاسبته على ما قام به في ثورة يناير، وكان من بين ما تحدثنا عنه “المؤسسات النقابية”؛ حيث نجح في رعاية وتنفيذ انقلابات صغيرة في تلك النقابات المهنية، وعمل على تدجينها وإلغاء أي نشاط يخص المجال العام، وأبقى فقط على ما يحتاجه منها للقطة والصورة، مما نزع منها أي فاعلية وكل حياة. على العكس من ذلك كان المشهد في نقابة الصحفيين مؤخرا بفوز مرشح تيار الاستقلال الأستاذ “خالد البلشي” بمنصب النقيب، وهو أمر في ظل الاختناق السياسي واغتصاب السياسة وقتلها؛ لو تعلمون عظيم، وله ما بعده على المستوى العام والسياسي.

وبعيداً عن مساحات الإحباط وقتل الأمل من ناحية، وتضخيم الأمور وتجاهل عناصر أساسية وكلية في المشهد من ناحية أخرى، فإن مثل هذا الحدث جاء ليؤكد على ما يمكن أن نسميه بالقابليات، وكيف أن محاولة نظام الثالث من يوليو لتدجين المجتمع وممارسات قطع الطرق التي يمارسها على المجتمع بأفراده ومؤسساته، لم ولن تكتمل، حتى لو بدت في بعض الأحيان قد جاوزت المدى في ظلمها وطغيانها.

بادئ ذي بدء، لا بد لنا أن نحرر مسألة مهمة تتمثل في أن القول بأن فوز النقيب خالد البلشي مسألة أمنية، هو قول يجافي الحقيقة ويناقضها، وهو محاولة بائسة وعاجزة للقول بأن النظام حاضر وموجود.

وقولنا ذلك ليس من باب التمني أو التجني على أحد، ولكن من يعرف الأستاذ خالد البلشي من الصحفيين والمهتمين بالعمل العام، يعلم حقيقة الرجل وكيف أنه بعيد عن مثل هذه الصفقات والسياسات. ولا يمكن أن ننسى خبرة البلشي في الانتخابات النقابية السابقة ودوره في خدمة وحماية مصالح الصحفيين، إضافة إلى أن المرشح المنافس لم يكن يحظى برضا جميع الصحفيين المؤيدين للنظام، ناهيك عن المناخ الذي جرت فيه الانتخابات، وما تعرض له من تضييقات وسخافات في الكثير من الصحف والبرامج الإعلامية التي انشغلت بالانتخابات، بل وما جرى يوم الانتخابات نفسه من محاولات حشد يائسة قام بها النظام من أجل مرشحه. بل إن هناك محاولات جرت لتغيير نتائج الصناديق وهو أمر غاية في الصعوبة لمن يعرف طبيعة انتخابات النقابة بصفة خاصة، وتواجد الصحفيين في حماية الصناديق ومنع التزوير، الأمر الذي يؤكد أن نجاح خالد البلشي كان بأيدي الصحفيين ورغبتهم، وهو ما يؤكد أن النظام الحالي لن يصمد في أي انتخابات حرة ونزيهة، وهو أمر ليس بجديد ولكن النظام يعلمه جيداً. ولذلك فالانتخابات التي جرت منذ الانقلاب سواء الرئاسية أو البرلمانية أو استفتاءات الدستور استلهمت أجواء عصور الاستبداد العتيقة من حشد وشراء أصوات، وتضييق ومنع وحبس المعارضين.

يمكن القول إنه بعد الاختطاف الذي حدث لمعظم النقابات المصرية خاصة فيما بعد الانقلاب وحرص منظومة الثالث من يوليو على تشكيل النقابات ومجالس إداراتها فيما يخدم أغراض الطاغية، بدا لهذه النقابات أن تقوم بأدوار تتأبى فيها على الاختطاف، والاستسلام أو الانصياع للانقلاب الذي هيمن على المجال العام وجفف كل مساحاته وفعاليات فعاليته، وتعامل مع كافة القوى السياسية والمدنية بدرجة كبيرة من درجات المحاصرة والتجميد، في ظل تحكم منظومة الثالث من يوليو في كل مفاصل المجتمع، وسعيها الفحيح للحفاظ على سلطتها ودوام سطوتها، ولم تسمح لأي صاحب مشروع معارض أن يبرز في أي مجال من المجالات أو أي ساحة من الساحات السياسية أو المدنية.

ومن ثم فإننا نعتبر أن بعض التحركات والتطورات التي جرت في عدد من النقابات المهمة من مثل المهندسين، والمحامين وأخيرا الصحفيين، تؤكد أن هناك حالة من الأمل يجب أن نتمسك بها، ولا نترك أنفسنا للاتجاهات التي تفسر ذلك بأن هناك تحكما كاملا للسلطة في هذه التغييرات. ومن ناحية أخرى، نؤكد لأنفسنا قبل أي أحد آخر أن ما جرى هو محاولات جادة للمقاومة من أبناء بعض التكوينات الشعبية المدنية.

وفي هذا الإطار نؤكد أن توقيت نجاح نقيب جديد لنقابة الصحفيين من تيار الاستقلال (الأستاذ خالد البلشي)، وتغلبه على مرشح النظام المدعوم بكل السبل، يعد مسألة مهمة جدا في إطار تنامي شعور قوي في الداخل المصري حول مشروع هذا النظام وإنجازاته ورؤيته للوطن والمواطن، فهو بالأساس لا ينشغل إلا بخدمة مشروعه الخاص بكل تنوعاته من زيادة ثروته على المستوى الشخصي، وتمكين أفراد أسرته وزبانيته، وبناء مشاريع يستهدف من خلالها تمجيد شخصه دون التفكير في العائد الحقيقي على الوطن والمواطنين، ناهيك عن تخليه طواعية وبدون ثمن عن مقدرات الوطن من مياه وأرض وغاز وشركات ناجحة، وتوريط البلاد في ديون وقروض لن يكون التخلص منها بالعمل الممكن، فهو يعمل وكأنه الرئيس الأخير لهذا الوطن، يستهلك مقدراته، ويهدر إمكاناته، ويضيع مكانته.

ومن هنا فإن محاولة إحياء تيار الاستقلال في النقابات المصرية يعد أمراً في غاية الأهمية، خاصة وأن العمل النقابي له أهمية بالغة في الحراك السياسي والمدني، فهو لا يقتصر على خدمة أعضائه وأسرهم وإنما يمتد أثره إلى كافة المجتمع، خاصة في تلك النقابات المتصلة بالشأن العام والمرتبطة بالجماهير من مثل نقابة المحامين ونقابة الصحفيين.

فإحياء العمل النقابي المستقل في مثل هذه النقابات قد يمتد أثره على المجتمع ككل، في ظل الظروف القاسية التي يمر بها المجتمع المصري على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وقبل كل ذلك الإنسانية، وأن نماء مثل هذه الجهود والعمل على تشجيعها ودعمها ولفت نظر المخلصين إليها بمثابة بناء سياج حماية لها يمكنها من أن تقوم بدورها. وهذا هو أكثر ما يخيف الأنظمة الانقلابية التي تتمثل مهمتها الأولى في تقطيع أواصر المجتمع وتفريقها حتى يسهل على هذه الأنظمة التعامل معه وعزله في جزر معزولة؛ تنفرد بالواحدة تلو الأخرى.

فالنظام ينظر إلى النقابات باعتبارها إدارات تابعة للوزارات أو القطاعات التي تمثلها هذه النقابات، ويحرص على إخضاعها لإرادته ولفتها عن دورها في الانشغال بخدمة أعضائها ومجتمعها، خاصة وأنه يعتبرها آلية من آليات السيطرة على المجتمع، فهو لا يتورع عن القيام بكل ما من شأنه أن يهيمن على المجتمع ومقدراته الفاعلة ويلجأ في إطار ذلك إلى استخدام الآليات الشرعية وغير الشرعية، ومن ثم فإن محاولاته لشق الصف النقابي وتفجير أزمات داخلية هي سياسة يجيدها هذا النظام ولا يتخلى عنها أبدا.

ومن هنا فإن النظام الذي احترف التعامل مع الجماهير وباتت شغله الشاغل في كل أجهزته ومؤسساته حتى تلك التي كانت تنشغل بالأمور الخارجية بحكم تخصصها؛ سيُخضع ذلك للدراسة والبحث، الأمر الذي يفرض على قوى المعارضة وقوى المجتمع الحية أن تتعامل مع هذا الأمر بقدره وحدوده، دون أن تغفل استمرار هيمنة النظام على معظم النقابات الأخرى التي لا تزال تحت السيطرة والتدجين؛ من مثل نقابتي العمال والمعلمين، خاصة أن النظام اتخذ سياسة عنيفة وشديدة في مواجهة أي حركات احتجاجية أو إضرابات عمالية، رغم أنه مارس البيع العشوائي والتصفية لشركات ومشروعات وطنية ذات صفة تاريخية، الأمر الذي يفرض على القوى المجتمعية والشعبية استعادة الأمل والعمل، والعمل على حماية مشروعات ولو كانت صغيرة في عملية التغيير جنبا إلى جنب في حماية والدفاع عن مشاريع ومقدرات الوطن وممتلكاته، وذلك لن يتم إلا بنقابات قوية وتكوينات سياسية حقيقية ومؤسسات أهلية قوية تحرص على استرداد عافيتها وفاعليتها؛ مخلصة للوطن والمواطنين