الأمن على طريقة الجمهورية الجديدة.. مفاهيم ملتبسة
الأمن على طريقة الجمهورية الجديدة.. مفاهيم ملتبسة
سيف الدين عبد الفتاح
عربي 21
في إطار رسمنا لملامح الجمهورية الجديدة وبيان أوهامها ومزاعمها، لم نورد من بين ما أوردنا موضوع الأمن القومي بصورة مباشرة، فقد أردنا أن نتناوله في مقالة مستقلة -وذلك لأهمية هذا الموضوع الشديدة- في ظل ما ترسخ في أذهاننا ووقر في قلوبنا من أن هذه الجمهورية “الجديدة” وقاداتها لا يلتفتون إلى هذا الأمر برمته؛ لا بمعانيه الجوهرية ولا بمغازيه الحقيقية أو بمآلاته الكلية، وتدل تشريعاتهم وسياساتهم وإجراءاتهم وتصريحاتهم على غياب جوهر هذه المفردة من قاموسهم؛ رغم أنهم يلوكونها بألسنتهم ويزعقون بها في خطابهم حول مكافحتهم للإرهاب، ولا يعرفونها إلا فيما يخص أمنهم الذاتي والخاص بحماية مصالحهم الأنانية والحفاظ على منظومتهم الانقلابية.
وتدل السنوات العشر الماضية على أن نظام الثالث من يوليو -وللمفارقة ذو الخلفية العسكرية- يخاصم الأمن بصورة مطلقة ولا يأخذ منه إلا أمنه وأمانه الشخصي والفردي وأمان كراسي سلطانهم. ومثل هذا القول من جانبنا ليس كلاماً مرسلاً، ولكن بالأدلة والبراهين، وهي كثيرة لا يحتاج إدراكها لصاحب عقل، وإنما بالنظر المجرد. وهناك الكثير من الملفات الكبرى من مثل سد النهضة، أو اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، إضافة إلى ما أصاب المواطن المصري من مخاطر وانتهاكات على مدار السنوات السابقة، سواء داخل السجون أو خارجها. فالأمر يعبر بصورة صارخة عن افتقاد مصادر الأمن والأمان والتأمين للمواطن على حياته ومعاشه ووطنه ومستقبله، وأصبح كل ما يتعلق بذلك كلأً مباحاً لكل صاحب مال أو لديه جانب من التأثير على الساحة الدولية في ظل معاناة هذه المنظومة من أزمة الشرعية الحقيقية وسراب الشرعنة الزائفة.
وضع الشرعية والشرعنة الذي صاحب نشأة منظومة الثالث من يوليو خلق لديها تساهلاً غير محدود في استباحة أمن الوطن والمواطنين، سواء من جانبهم أو أي طرف آخر في الداخل أو في الخارج، الأمر الذي دفعهم إلى الحديث عن الأمن القومي وكأنه مفهوم مختلف عما درسناه بأصوله ونعرفه بمصادره في حقل العلوم السياسية. فعقيدة منظومة الثالث من يوليو العسكرية أصابها ما أصابها من تغييرات جذرية خلخلت مفهوم الأمن ومرتكزاته لديهم، ووجدناهم يفتخرون بوجود خطوط مفتوحة ومباشرة مع العدو التاريخي ضمن تصورهم للسلام الدافئ، بل إن قائد المنظومة تشدق وافتخر بحرصه الكبير على تأمين الكيان الصهيوني وأمانه وكأنها وظيفته الأساسية والاستراتيجية.
تفريط هذه المنظومة في مقدرات البلاد؛ من أرض استراتيجية وموارد أساسية، يثير الشكوك، خاصة وأن مستوى التدهور بات غير مسبوق ولا يمكن قبوله ويرتبط بأمن الوطن أو معاش وضرورات المواطن. وفي هذا السياق يجدر بنا أن نعيد ونستعيد تعريف الأمن القومي حتى تتضح الصورة، وتنجلي الغشاوة التي يعمل زبانية هذه المنظومة على نشرها وانتشارها، ومحاولة طمس حقائقها الجوهرية تحت عناوين زائفة وقاتلة من المصالح العليا.
انشغل أستاذنا الدكتور المرحوم حامد ربيع، بمفهوم الأمن القومي وأصدر في ذلك كتابا بعنوان: “نظرية الأمن القومي العربي.. والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط”، تناول أبعاد هذا المفهوم “المحوري”، الذي يتعلق بالدولة وكيانها وفهمها الاستراتيجي لوظائفها وأدوارها، وميّز بشكل دقيق بين الأمن القومي، بمفهومه العسكري الضيق، والأمن بمفهومه الاستراتيجي الممتد والعميق، والذي يتجاوز هذه المعاني إلى معنى أرحب، يعبر عن كل طاقات الدولة والمجتمع، في الحفاظ على الكيان والعمران والإنسان، وبدا هذا المفهوم مقدمةً لمفهوم آخر برز لدى هؤلاء المهتمين بحقيقة وجوهر الأمن، ألا وهو “الأمن الإنساني”، وأن المعنى الإنساني فيه هو أبرز حلقاته؛ ليعبر عن امتداد آخر؛ يرى الأمن القومي باعتباره امتداداً للأمن الإنساني. فمثل هذا البعد يتعارض مع توجهات منظومة الثالث من يوليو وجمهوريتهم الجديدة المزعومة؛ خاصة أنه يؤكد على أن الأمن القومي لا يمكن أن يكون على حساب أو يتناقض مع فهمه الإنساني، وكيان الإنسان وكرامته وحرياته الأساسية وحقوقه التأسيسية.
هذا هو مفهوم الأمن القومي الراسخ في حقل العلوم السياسية ولا علاقة له بالمفهوم السائد الآن، في منظومة الثالث من يوليو التي لا يشغلها إلا وجودها وحياة رجالها. وثمة فارق بين مصلحة السلطة أو مصلحة النخبة الحاكمة ومصلحة الوطن، إلا أن دولة الاستبداد تخلط عمداً بين مصلحة السلطة ومصلحة الدولة ومصلحة الوطن ومصلحة الحاكم الطاغية المستبد، فأصبح الحديث عن الحاكم الفاشي ورؤاه المريضة أمناً قومياً! وبات الأمن القومي مجرد غطاء لتسويغ الاستبداد، وتكميماً للأفواه، وتكريسا لعملية التخويف والتكتيف، وتحريكاً لحركة الدولة القمعية البوليسية، والفاشية العسكرية، وتمريراً للمحاكمات العسكرية، وتوزيعا لاتهاماتٍ، تبدأ من تعكير صفو الأمن العام، وحتى تهم التخابر والخيانة العظمى.
في منظومة الثالث من يوليو الأمن القومي ليس إلا تبريراً لإزهاق الأرواح، والإضرار بمصالح الوطن. إنه المفهوم الطاغي على حياة الناس، والتغول على نشاطهم وحياتهم وسكناتهم، يدخلهم في معادلة المقايضة بين الأمن والحرية، وكأن الأمن هو خصم بالحتم والجبر من الحرية دائماً، فإن كان ذلك على مستوى المواطن في الوطن؛ فإن الأمر بالنسبة لمقدرات الوطن تعني التنازل المجاني والتفريط في موارده وبيع الأصول وارتهانه بالقروض والحفاظ على أمن العدو الصهيوني؛ والمقايضة والمساومة مع دول متنفذة على المستوى الدولي في مقابل شرعنة زائفة أو تواطؤ حقير لتمرير انتهاكات هذا النظام وسياسات طغيانه الواضحة الفاجرة.
بل إن قائد هذه المنظومة الفاشية وجمهوريته الجديدة المزعومة يذهب أبعد من ذلك ويقايض الوطن والدولة بالحفاظ على مفهومه للأمن القومي، ففي أحد تصريحاته -وللمفارقة كان حينها يقرأ من ورق معد مسبقا بلغة سليمة وواضحة على غير العادة- قال: “إن بناء الدول لا سبيل له من دون الحفاظ على الأمن القومي بجميع عناصره ومكوناته.. وإن الوطن لا يبقى ولا يحيي من دون حماية الأمن القومي وصونه من الأخطار التي لا تخفى عليكم، وأنتم الشعب المصري الواعي المدرك لتعقيدات المنطقة التي نعيش فيها وانعكاسات ذلك على الداخل. وفي هذا الإطار تقوم هيئة الشرطة المدنية بجهود يعجز البيان عن حصرها وإيفائها حقها، ويقدم أبناؤها تضحيات يقف أمامها وطننا ممتنا ومقدرا وشاكرا”.. هكذا لا يرى السيسي الأمن القومي الذي يفديه بالوطن والمواطنين إلا في الدور الذي تقوم به الشرطة المدنية.
هذه المنظومة لا تنظر إلا لذواتها ومصالحها المباشرة، وأنها تغفل تماما مصالح الوطن والمواطنين، ولا يعنيها مكان ومكانة وإمكانات الدولة المصرية ومستقبلها أو مستقبل مواطنيها، وليست عمليات الاقتراض المحموم والاستدانة المباحة والمستباحة، وعمليات بيع شركات ناجحة إلا عملية بيع كبرى وارتهانا ممنهجا يرسخ التصور المتنامي لدينا من أن هذه المنظومة بات لديها تعريف للأمن القومي يخصها بمفردها، يقوم على حماية ورعاية منظومة الفساد والاستبداد
مثل هذا التعاطي مع موضوع شديد الخطورة مثل موضوع الأمن القومي من قبل تلك المنظومة الاستبدادية؛ يؤكد لنا بدون أي مجال للتردد أو الشك أن هذه المنظومة لا تنظر إلا لذواتها ومصالحها المباشرة، وأنها تغفل تماما مصالح الوطن والمواطنين، ولا يعنيها مكان ومكانة وإمكانات الدولة المصرية ومستقبلها أو مستقبل مواطنيها، وليست عمليات الاقتراض المحموم والاستدانة المباحة والمستباحة، وعمليات بيع شركات ناجحة إلا عملية بيع كبرى وارتهانا ممنهجا يرسخ التصور المتنامي لدينا من أن هذه المنظومة بات لديها تعريف للأمن القومي يخصها بمفردها، يقوم على حماية ورعاية منظومة الفساد والاستبداد، وكذلك إهدار ممكنات ومكنات وإمكانات الدولة المصرية، وكأن مصر وأجيالها المستقبلية لا تعنيهم ولا تشغل بالهم. فهم معنيون منشغلون باللحظة الراهنة التي عليهم أن يحصلوا فيها على أكبر قدر من القروض بأي فوائد متاحة، دون أن يفكر بشكل فعال في طريقة للسداد عدا تلك الطريقة التي أعلن عنها وزير مالية هذه المنظومة “هنقترض تاني لنسدد القروض”، ضمن عملية ارتهان خطير للوطن والمواطن على حد سواء.
ويتضمن ذلك جانبا شديد الخطورة يتمثل في انطباع المواطنين عن سلوك الحكومة التي أهدرت الأمن القومي وفرطت في مقدرات الوطن الاستراتيجية، وأهدرت مقدراته وموارده والقروض التي يُنفَق بعضها في مبان للبهرجة والافتخار والزينة، ودخول موسوعة أطول وأكبر وأضخم ومشروعات لا عائد من ورائها، وفي أقصى تقدير مع بيان مآلاتها لرفع الروح المعنوية. ولعل تصريح رئيس المنظومة الشهير حول بناء القصور الرئاسية “أيوه ببني وهبني وهبني” كل هذه السياسات؛ هو من جملة سياسات الاستهانة والاستخفاف بالوطن والمواطن المواطنين والأمن القومي ومدركاته وفعالياته والأمن الإنساني وأركانه ومجالاته وقضاياه وسياساته.
twitter.com/Saif_abdelfatah
h