خرائط النهوض العربي: تصنيف ونقد ورؤية للمستقبل

خرائط النهوض العربي: تصنيف ونقد ورؤية للمستقبل

سيف الدين عبد الفتاح

العربي الجديد

06 يناير 2023

قبل أن يُصدر أستاذ الفلسفة المرموق، مصطفى النشّار، كتابه “الفكر العربي الحديث بين الأوهام الأربعة ورؤى التجديد والنهوض” (دار فرست للنشر والتوزيع، القاهرة، 2018)، نشر دراسة إضافية في مجلة التفاهم في العدد 46 والصادرة في مارس/ آذار 2015، أسّس فيها لرؤيته عن خرائط المشاريع الفكرية العربية المعاصرة وامتداداتها في المستقبل. وعلى الرغم من أن الكتاب اتسع لمناقشة أفكار ومفكّرين أكثر بكثير مما تضمّنته الدراسة بطبيعة الحال، إلا أن تلك الدراسة انشغلت بتكثيفٍ شديدٍ بهذه الخرائط وتأسيسها الواعي لحال الأمة العربية والإسلامية ما بين وضع التدهور والتراجع ولحظات الصدام ومحاولة النهوض والمشاريع المكثفة المقدمة من أجيال الأمة والمستقبل الذي يجب أن يشغلنا من دون عودة إلى الماضي، ومن دون التخلي عن هويتنا وتاريخنا. تقدّم هذه الدراسة، رغم حجمها الصغير، إضافة منهجية جديدة ومتميزة في خرائط التصنيف تلك.

يستهل النشّار دراسته بالتوقف عند الصدمة الحضارية التي تلقتها الشعوب العربية منذ بداية الحركات “الاستعمارية الغربية” التي بدأت باحتلال فرنسا مصر عام 1798 ثم توالى احتلال البلاد العربية الأخرى. ولّدت هذه الصدمة الوعي بمدى ما أحرزه الغربيون من تقدّم وبمدى التخلف الذي تعاني منه الشعوب العربية بسبب ظروف خارجة عن إرادتها. ويحدّد الكاتب إرهاصات مفصلية للتدهور الفكري للعالمين العربي والإسلامي، أولها نكبة ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، وثانيها التلقي السلبي لفكر ابن خلدون من العرب والمسلمين في القرن الرابع عشر الميلادي، ويقدّم تفسيرا بأن ذلك من نتائج توقف الاجتهاد ووأد النزعة العقلية في الفلسفة الإسلامية. في الوقت نفسه تقريبا، كانت نهضة الغرب التي تعاملت مع المفكّرين المسلمين بشكل آخر، حيث كان التلقي والتفاعل الغربي واعيا بأهمية ذلك.

كما يردّ الكاتب تأخّر ظهور مشاريع إصلاحية ونهضوية في العالم العربي والإسلامي إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي إلى أن حالة الجمود التي عرفها العرب والمسلمون لم تكن لتنتهي بمجرّد دعوة فكرية إلى النهضة أو التقدّم، أو محاولة تحديث بعض المناهج الفكرية في أماكن الدرس والبحث؛ بل كان لا بد من أن تكون الصدمة مزلزلةً لكيان هذه الشعوب ووجودها، فمثل هذين التهديد والقوة اللذين حملهما معه المحتلّ كان لا بد أن يُحدِثا ردّ الفعل ويوقظا الهوية لدى هذه الشعوب التي استكانت لحكّامها المستبدّين وآثرت السلامة عدة قرون سابقة، إلا أن ذلك لم يجعله يمدّ تفسيره لاستمرار الاستبداد، وتقبل هذه الشعوب صنوفا من الاستبداد الجديد، حتى بعد ما نالته من استقلال اسمي، على الرغم من حديثه، مشيرا إلى أربعة أجيال حملت مشاريع فكرية، واصلت في ما بينها محاولة إبداع هزّ الثوابت والتطلّع إلى التغيير، خصوصا في أعقاب هزيمة 1967 التي زلزلت الأرض تحت أقدام المشروع القومي، وأعادت إلى الأذهان محنة الصدام الأول، موجة الاستعمار الغربي.

يتحدّث النشّار عن مشاريع الفكر العربي المعاصر ويصنفها إلى ثلاثة مشاريع؛ الأول منها ما استند إلى الموروث من دون الوافد، وأمثلتها كثيرة، حيث أشار إلى الموروث الذي حاول المفكّرون والرواد إحياءه مثل تراث ابن تيمية، والتراث الاعتزالي، والتراث الأشعري، والفكر الفلسفي العقلاني، وإحياء الاتجاه الصوفي، وأشار إلى أكثر من رائد ومفكر وقف وراء هذه المشاريع. والثاني يشمل المشاريع التي استندت إلى الوافد الغربي، ومثّل لها أيضا باتجاهات كما فعل سابقا حيث بدأ بالإشارة إلى ما أسماه استنبات الوجودية في الفكر الغربي والشخصانية الوجودية، مرورا بالزمان الوجودي، وكذلك محاولة زرع الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية في الفكر العربي، أو زرع الماركسية في الفكر العربي، أو هؤلاء الذين يشكلون التيار المثالي العقلاني، أو من يمثلون البنيوية أو التفكيكية أو الظاهراتية في الفكر العربي، بالإضافة إلى التيار الذي يبشّر بالفكر العلمي العلماني. أما الصنف الثالث من المشاريع فهو الذي حاول التوفيق بين الوافد والموروث، وأبرزها إسهام زكي نجيب محمود، ومشاريع محمد عابد الجابري والطيب تيزيني وحسن حنفي.

وفي إطار نظرته النقدية إلى هذه المشاريع، يرصد النقد المتبادل بين هذه التيارات، ويشير إلى أن التيار الثالث الذي حاول حل الإشكال لم ينجح في ذلك، بل زاد المسألة تعقيدا، وأصبحت هناك ثلاثة مواقف، عمقت الإشكالية وأسست للاختلاف والصراع حول ما يسمّيها “الإشكالية الزائفة ـ إشكالية الأصالة والمعاصرة”. واستعرض أبرز تلك الانتقادات التي تعرّضت للمشاريع الأربعة التي رصدها، وخلص الكاتب إلى أن هذه الانتقادات، كما ذهب إلى ذلك آخرون، تتعلق بالماضي من جانب، أو أنها تنفصل عن الجماهير من جانب آخر.

وقد انطلق الكاتب من خلاصة هذه الانتقادات للحديث عن العلاقة بين الفكر العربي المعاصر والمستقبل، مشيرا إلى إسهامات بعض المفكّرين حول هذه العلاقة، ومنهم حسن حنفي الذي أكّد أن علم المستقبليات يتمثل في الإجابة عن التساؤلات المطروحة بشأن إشكاليات الفكر العربي، فالإشكالية الرئيسية تتمثل في كيف يستطيع الفكر العربي المستقبلي أن يسهم في اعتماد الأمة على نفسها في الغذاء والسلاح والتعليم.

يخلُص النشّار إلى أن المشاريع الفكرية العربية، وخصوصا التوفيقية منها، وقعت في فخّين، كلاهما مرّ، وجعلت الخروج من النفق المظلم صعبا وملتبسا؛ الأول هو التركيز على تحليل التراث في محاولة مستميتة من أصحاب هذه المشاريع لتثويره أو تحديثه، وهو أمرٌ غاية في الصعوبة. وثانيهما أن التركيز على تحليل التراث جعلهم يقعون في فخّ نسيان المستقبل والغفلة عن أن التفكير في المستقبل- والانشغال بقضاياه ومستجدّاته على كل الأصعدة- هو ما سيتطوّر بمقتضاه الحاضر، وهو ما سيخلّصنا من تلك الإشكالية التي أشار إليها الكاتب من قبل، ووصفها بالزائفة.

طالب النشّار بتجاوز كل المشاريع الفكرية العربية المعاصرة، سواء التي حاولت استعادة التراث، أو التي سعت إلى استنبات الفكر الغربي في البيئة العربية، أو المشاريع التي عمدت إلى التوفيق بينهما، مؤكّدا أن التفكير في المستقبل والانشغال بقضاياه بعيدا عن الالتفات إلى الوراء هو ما سنصنع به، ومن خلاله، التقدّم، من دون الانسلاخ عن هويتنا، ومن دون أن نذوب في حضارة ليست حضارتنا، إننا سنصنع مستقبلنا بقيم العصر وآلياته في الوقت ذاته الذي لا نملك فيه الإقلاع عن ذاتيّتنا وهويتنا.

هذه الجملة الأخيرة التي تضمنت ذلك الاستنتاج لا تزال تعاني من غموضٍ كثير في الصياغة. ورغم أن التيار التوفيقي انتقده، إلا أنه، في النهاية، ركّب جملة من المواقف، لم يذكر لنا الكيفيات التي تتعلق بالجمع بينها، أو بصيغ الجدل في ما بينها، وربما حينما استشعر بعض الحرج في هذه النتيجة المركبة، قال: “والمسألة هنا ليست مجرّد كلام نظري، بل هي واقع نعيشه، ونسعى إلى تحقيق التقدّم في إطاره”. ومن هنا، يحتاج الأمر مزيدا من البحث في الكيفيات والفحص للآليات المختلفة التي يمكن أن تحدث نتائج إيجابية في مسألتي الإصلاح والنهوض والبيان في هذا المقام من أوجب الواجبات. وعلى الرغم من ذلك، تعد تلك الدراسة ومذكّرته التفسيرية في كتابه السابق الإِشارة إليه إسهاما في رسم مشاريع الفكر العربي المعاصر وتصنيفها، مصحوبة بنظرة نقدية لها، بل يتقدّم خطوة، فيطرح إسهاما حول مستقبل الفكر العربي.