قضايا منهجية في خرائط الإصلاح الفكرية

قضايا منهجية في خرائط الإصلاح الفكرية

آراء

سيف الدين عبد الفتاح

العربي الجديد

23 ديسمبر 2022

تعد النمذجة أو اختيار النماذج لدراسة الأفكار أو تحليل الأطروحات أداة منهجية لها قيمتها وتقديرها علميا ومنهجيا، وقد نجح الأكاديمي المرموق أستاذ العلوم السياسية والنظرية السياسية في جامعة القاهرة، محمد بشير صفار، في دراساته التي جمعها في كتابه “دراسات في الفكر السياسي المصري على طريق الاستقلال الفلسفي”، نجح في تقديم تطبيق فعّال لهذه النماذج المنهجية في رسم الخرائط المعرفية والفكرية؛ مستخدما المداخل الفلسفية والاتجاهات والمفاهيم والمقولات والأطر والأوعية والسياقات، لرسم تلك الخرائط من خلال طرح أسئلة وإشكالات في كل واحدةٍ من الحالات، مثل التأثر الفكري بالشرق أم بالغرب، وإشكالية المصادر، وإشكالية النص، وإشكالية السلطة، كاشفا من خلالها عن أبنية مفاهيمية وأطروحات فكرية وإشكالات بحثية مختلفة تدور في فلك الفكر السياسي المصري، مع إحاطته بما يتقاطع معه من مجالات أو مدارات في الفكر العربي أو الإسلامي.

يولي صفار لاستراتيجية الأسئلة مكانة رئيسية في منهجه وتحليله موضوعة الفكر السياسي. وفي محاولته لتسكين الفكر السياسي المصري في الفكر السياسي العربي، حرص على تناول نموذجين، أولهما المشروع الفكري لناصيف نصّار، منطلقا من كتابه “طريق الاستقلال الفلسفي: سبيل الفكر العربي إلى الحرية والإبداع”، مشيرا إلى أنه يمتلك رؤية منهجية لم تتبنّ نتائج مسبقة، ولكنها حرصت على ضرورة اكتشاف الطرق التي تؤدّي إلى تحرّر الوعي الفلسفي عند العرب، مشيرا إلى امتلاك نصّار بوصلة ومنهجية ساعدتاه على التأسيس ورسم الخرائط بوضوح، في إطار رؤية حضارية تنتقد الموقف الاتباعي وتؤسّس لموقف استقلالي إبداعي. وتمثل النموذج الثاني في مشروع السيد ياسين، معتمدا على كتابه  “الوعي القومي المحاصر”. وقد اعتبر أن انطلاقة ياسين، والتي سماها “خطاب الأزمة”، ويسمّيها صفار “أدبيات النقد الذاتي”، مناسبةً للتعرّف على إشكالية البداية في الفكر العربي الحديث، ورصد ياسين موجاتها، الأولى وشعارها النكبة، والثانية وشعارها النكسة، والثالثة عن أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي، والرابعة واهتمامها بالحوار القومي. ويضيف “صفار” موجة خامسة تتمثل في كتاب “الوعي القومي المحاصر”؛ حيث يرى أن الكتاب يقدّم تصورا متكاملا عن سبل تجنب نكبة جديدة، ليس من مدخل طرح البدائل، وإنما من خلال إثارة الإشكالية بوضوح، وإبراز خطورة آثارها الفكرية والعملية وضرورة تناولها. ويعتبر صفار أن هذا هو المعيار لتقييم أي عمل فكري أو تميز مفكر من المفكرين.

بعد هذا التمهيد والتسكين، يتناول الكاتب الجذور الفكرية للتوجّه الشرقي في الفكر السياسي المصري، في محاولة لفض الإشكال والاشتباك بين رؤية جمال حمدان موقع مصر (وموضعها) التيه الحضاري الذي تمر به مصر في قيادتها العالم العربي، وفقا لحسن حنفي وأنور عبد الملك، الأمر الذي يدفع كاتبنا إلى الغوص في تاريخ هذا الفكر، محاولا الوقوف على الأبعاد الفكرية والسياسية للمركب الحضاري  للفكر السياسي المصري، معتمدا على جمال حمدان لمحاولة الفهم والتحليل والتسكين الدقيق لمفردات الواقع المصري وبناء شخصيتها وكيانها بأبعادها، الأفريقي والآسيوي والنيلي والمتوسطي. ويذهب إلى أبعد من ذلك بالعودة إلى نماذج فكرية مصرية، أسهمت في تشكّل هذا الفكر، حيث يبدأ بجمال الدين الأفغاني مرورا بمحمد عبده وعبدالله النديم ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد، وصولا إلى طه حسين وحسن البنا. ويخلص إلى أن فكرة البعد الشرقي في الفكر السياسي المصري تنقسم إلى شطرين: أولهما أن فكرة الشرق تطوّرت في الفكر السياسي المصري على خلفية المواجهة مع الاستعمار الغربي. ويرتبط ثانيهما بالتطور العكسي لفكرة الشرق من الأوسع إلى الأضيق. ويخلص إلى أن إعادة تعريف المركب الحضاري المصري على أساس بُعد جديد في كل مرحلة تاريخية ستقود إلى اختلافات جذرية في توجهات السياسة الخارجية المصرية وقراراتها بين مرحلة وأخرى.

ويستكمل جوانب الفكر السياسي المصري انطلاقا من مقولة ابن خلدون “المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب”، موضحا أن عملية التقليد تدريجية، تبدأ من الأمور المظهرية البسيطة، وقد تتعمّق مع تبني آراء الغالب، وتتوسّع فتشمل سائر عاداته وأحواله. ويشيد بالتفسير النفسي الذي وضعه ابن خلدون “الذي يتمثل في الولع”، معتبرا أنه يمثل حجر الزاوية في علاقة المواجهة بين المتصارعين، وأساس شرعية التقليد لدى المغلوب، فالأخير، في حقيقة الأمر، وفق هذه الحالة، لا يرغب نهائيا في الاعتراف بالسبب الحقيقي وراء هزيمته. ويستكمل الكاتب طرح الأطر النظرية والتحليلية في محاولة لاستقصاء كيفية فتح الاستجابات المتمايزة للتحدّي الثقافي/ الحضاري الغربي الطريق أمام ظهور البديل الثالث في الفكر المصري في أوائل القرن العشرين. ويحلل في هذا الإطار أطروحات طه حسين ومحمد حسين هيكل. ويعمّق صفار طرحه بتناول ما قدّمته منى أبو الفضل، في إعادة صياغة العلاقة مع الغرب، وذلك في سياق تقديمها مشروعا بحثيا عن الفكر الغربي، كان من بين ملاحظاتها عنه أن درجة انفتاح العقل الغربي قد ازدادت، وكذلك ميله إلى إعادة اكتشاف ذاته وتاريخه. ورغم ذلك، يضع موروث العلاقة بين الإسلام والغرب وما كان بينهما من مصادمات في الماضيين، القريب والبعيد، عراقيل في وجه اتخاذ الغرب موقفا منفتحا تجاه الإسلام أيضا، مثلما هو الحال مع الثقافات الأخرى، ما يدفع منى أبو الفضل إلى الاعتقاد أن المبادرة في هذا المقام يجب أن تأتي من المسلمين لدفع عجلة انفتاح الغرب على الإسلام.

يذهب صفار إلى أبعد ما تسمح له به المنهجية العلمية، حيث يعتمد الأدب من مصادر الفكر السياسي المصري الحديث

  كما استخدم صفار مفهوم الوليمة الطوطمية الأنثروبولوجية، من منظور فرويد في كتابه “الطوطم والتابو”، لتحليل الفكر العلماني، وتبنّى نماذج لمفكرين علمانيين، منهم صادق جلال العظم، ونصر حامد أبوزيد، ومحمد أركون، معتبرا أن ما قام به نموذج لاستخدام أسلوب غير تقليدي في التعامل مع الإنتاجات الفكرية العربية، تلك الأساليب التي تحاول، في الأساس، التنقيب عن حفائر الفكر بمهارة تحت طبقاتٍ من المساحيق وأدوات الزينة المنهاجية التي تخفي وجه الفكر الحقيقي، وقد تحجُب عنا دوافعه المحرّكة وتسد دروبه ومسالكه المتعرّجة الوعرة.

كما يستكمل صفار تبنيه النماذج في التحليل، ويذهب إلى أبعد ما تسمح له به المنهجية العلمية، حيث يعتمد الأدب من مصادر الفكر السياسي المصري الحديث. وفي ذلك، يقدم الإطار النظري والمنهجي المعتاد منه في تناول مثل هذه القضايا، بالإشارة إلى خبرات ونماذج حضارية غربية، مثل جورج أورويل وغيره. ويستفيض الكاتب في استعراض النماذج المصرية، محاولا تلمّس ملامح الفكر السياسي وأطره من منجزاتهم الأدبية، مثل علي مبارك وعبدالله النديم ومحمد المويلحي، مؤكدا علاقة عضوية بين الأدب والسياسة، بما يفتح الباب أمام الأدب ليصبح مصدرا ثريا للتنظير السياسي، ولدراسة الفكر المصري الحديث على وجه الخصوص، خصوصا أن الأدب من المصادر غير التقليدية  لدراسة السياسة، إلا أنه يحتاج المنهجية المناسبة له، وهي تلك التي يحاول الاعتماد عليها في تحليله لمفهوم السياسة في سيرة على الزيبق.

هكذا تبدو لنا أهمية فكرة النماذج المنهجية التي اعتمدها محمد بشير صفار في كتابه، وفي دراساته المختلفة بين طيات الكتاب، وقدّم في هذا جملة من القضايا المنهجية المهمة في القيام بمهمة رسم الخرائط المعرفية والفكرية وبيانها.