السودان على شفا المجاعة

بينما تعتصر قلوبنا ألما وحزنا وقهرا وعجزا على أهلنا في قطاع غزة الذي تدكه دولة الاحتلال بأسلحة تدميرية نازية منذ أكثر من شهرين، يجب ألا ننسى أهلنا في السودان الذي تتوالى التقارير الأممية محذرة من مآسٍ إنسانية غير مسبوقة تتداعى على هذا الشعب الطيب الذي يمتلك من الموارد ما يكفيه ويكفي غيره من الدول العربية من الغذاء والسلع الأساسية.

بداية، يجب الاعتراف بأن التحديات والآلام التي تواجه العرب كبيرة وجسيمة وتبدو طويلة الأجل إلى حد كبير، كما أن الرقعة الجغرافية لهذه التحديات والآلام تبدو قابلة للاتساع، في ظل مخططات استعمارية إمبريالية تحاول فرض واقع جيوسياسي ممزق وأكثر هشاشة من الواقع الحالي، ورغم ذلك يجب أن تواجه الأمم أقدارها والتحديات المفروضة عليها مهما كانت، ولا تنتقل إلى حال التعايش السلبي معها، كونها حتمية لا يمكن الفرار منها، خاصة أن هذا التعايش هو الذي يفاقم الأزمات ويوسع رقعتها ويعمقها.

وينطبق ذلك بوضوح على الحرب الدائرة في السودان منذ 15 إبريل/ نيسان الماضي، وهو الأمر الذي قابلته الحكومات العربية باستخفاف وتهاون شديدين تسببا في اتساع دائرة العنف ووقوع أكثر من 12 ألف قتيل حتى مطلع ديسمبر/ كانون الأول، وفق حصيلة بالغة التحفظ لمنظمة “أكلد” المتخصصة في إحصاء ضحايا النزاعات.

كما أجبر القتال ما يقرب من 7.1 ملايين شخص على النزوح داخل السودان، من بينهم نحو 1.5 مليون شخص فروا عبر الحدود، وأخيرا وصفت الأمم المتحدة ذلك بـ”أكبر أزمة نزوح في العالم”.

كارثة الجوع وشيكة في السودان

يبدو العنوان السابق صادما للغاية لأجيال نشأت وترعرعت على أفكار أن أراضي السودان الشاسعة هي سلة الغذاء للأمة العربية بأكملها، ولا ينقصها سوى المال اللازم لتدشين البنية الأساسية الزراعية، ولم يدر بخلدها أبدا أن ترى أياما يصعب على السودانيين توفير قوت يومهم.

وطبقا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإنه مع اقتراب الصراع المستعر في جميع أنحاء السودان من شهره الثامن فإن البلاد تواجه أزمة جوع متفاقمة، ويُظهر تحليل جديد للأمن الغذائي في السودان أعلى مستويات الجوع المسجلة على الإطلاق خلال موسم الحصاد (من أكتوبر إلى فبراير)، وهي عادة فترة يتوفر فيها المزيد من الغذاء.

كما حذر البرنامج من أنه إذا لم تتوفر زيادة كبيرة في المساعدات الغذائية بحلول موسم الجفاف في مايو/أيار المقبل، فقد تشهد بؤر الصراع الساخنة ظهور مستويات جوع كارثية، بحال الفشل في توسيع نطاق الوصول إلى المساعدات الغذائية وتقديمها بانتظام للأشخاص المحاصرين في المناطق الساخنة من الصراع، مثل الخرطوم ودارفور وكردفان.

وحاليا يواجه ما يقرب من 18 مليون شخص في جميع أنحاء السودان الجوع الحاد طبقا لتصنيف (IPC3+)، ويعد ذلك أكثر من ضعف العدد في نفس الوقت من العام الماضي، كذلك يوجد حاليا نحو 5 ملايين شخص في مستويات الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي عند التصنيف (IPC4).

علما بأن أكثر من ثلاثة أرباع هؤلاء الأشخاص محاصرون في مناطق يمكن إيصال المساعدات الإنسانية إليها بشكل متقطع فقط، والآخرون في مناطق يستحيل الوصول إليها بسبب القتال المستمر.

وتجدر الإشارة كذلك إلى تساقط أعداد متزايدة من السودانيين في دائرة الجوع الخبيثة، فبينما كانت تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى 15 مليون شخص، تفاقمت الأزمة لتشمل 18 مليون شخص بزيادة ثلاثة ملايين خلال شهرين فقط، ويشير ذلك التزايد السريع إلى ضخامة حجم المآسي الناجمة عن الصراع الذي بات يهدد حياة الملايين.

كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن المساعدات عبر المنظمات الدولية كانت توفر وجبة واحدة يوميا، كما كانت توفر المياه النظيفة لمخيمات النازحين، وهو الأمر الذي بات متقطعا بعد شح المساعدات وانصراف الأنظار بعيدا عن المأساة السودانية.

بالإضافة إلى أن الاشتباكات المستمرة أدت لإغلاق معظم الأسواق والمتاجر، الأمر الذي جعل من الصعب توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية.

ويجب الالتفات كذلك إلى أنه في الخرطوم ودارفور، توقفت معظم المستشفيات عن العمل، وتقطعت سبل توصيل المساعدات والإمدادات الطبية. كما شحت المواد الغذائية وحتى مياه الشرب، وتراجعت خدمات الاتصالات والكهرباء، والبنوك في ظل تنصل القوتين العسكريتين المتحاربتين من المسؤولية وعدم اتفاقهما على ضمان وصول المساعدات الدولية إلى المناطق التي تعاني.

حاجة ماسة للمساعدات العربية

في ظل الأوضاع المتردية والمتفاقمة للصراع في السودان تبدو حاجة الأشقاء ضرورية وماسة لمساعدات كبيرة وعاجلة في مناطق الصراع المختلفة.

ويزداد الأمر سوءا نتيجة الصعوبات التي يواجهها برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في توفير ما يكفي من التمويل لتلك المساعدات رغم تزايد الاحتياجات الإنسانية، الأمر الذي يهدد بأن يتوقف البرنامج عن تقديم المساعدات الغذائية لملايين النازحين واللاجئين ومن بينهم النازحون السودانيون.

وقد أوضح البرنامج بالفعل أنه “اعتبارا من يناير المقبل، سيتم تمديد التعليق ليشمل تشاد، وهو قرار قاسٍ سيؤثر على الوافدين الجدد من السودان، الذين لن يحصلوا على الغذاء أثناء فرارهم عبر الحدود”.

وطبقا لصحيفة غارديان البريطانية فقد عبر ما يقرب من نصف مليون سوداني إلى تشاد منذ اندلاع الحرب، وأكثر من 90% من هؤلاء اللاجئين ليس لديهم بالفعل ما يكفي من الطعام.

وأعلنت الأمم المتحدة عن تعهدات من دول ومؤسسات بقيمة 1.5 مليار دولار لمساعدة السودان، حيث تعهدت الولايات المتحدة بالتبرع بـ550 مليون دولار، تليها ألمانيا 162 مليون دولار، والمفوضية الأوروبية 151 مليونا، وتبرعت السعودية بـ100 مليون دولار، وقطر بـ 50 مليوناً، والإمارات بـ 50 مليوناً والكويت بـ 6 ملايين دولار.

ورغم هذه التعهدات، لا يزال الأشقاء في السودان بحاجة ماسة إلى المساعدات العاجلة وفي مقدمِها المساعدات العربية.

وعلى الرغم كذلك من تلك التعهدات، فإن التاريخ القريب يشير إلى عدم التزام الدول، خاصة الدول الغربية، بتلك التعهدات، وحتى إن صدقت، فالصعوبات في التوصيل إلى مناطق الاشتباكات علاوة على النهب والسرقة والبنية الأساسية الضعيفة في السودان تقف حائلا دون هذا التوصيل، بالإضافة بالطبع لاتساع رقعة الصراع الذي ينتشر بسرعة نحو مدن جديدة.

إن الدول العربية لها نفوذ كبير على طرفي الصراع في السودان، بما يمكنها من الضغط لضمان وصول المساعدات والحد من نهبها.

كما يمكنها التدخل لتخفيف الاعتداءات على المدنيين ووقف الانتهاكات الجسيمة التي تتداولها وسائل الإعلام بحق المواطنين الآمنين، كما يجب عليها الالتزام بما تعهدت به من مساعدات.

وأعتقد أن البعثات الدبلوماسية السودانية والسودانيين في الخارج يجب أن يقوموا بأدوار أكبر في التعريف بهذه الكارثة، وجمع المساعدات وضمان توصيلها.

يمثل السودان قضية أمن قومي لكل الدول العربية، لا سيما دول الجوار. لذلك يجب أن تكون لحكومات تلك الدول أدوار أكثر فعالية في وقف الحرب، أو على الأقل في التخفيف عن المدنيين، ومن الواجب ألا تشغلنا المأساة المروعة في غزة عن مأساة موازية تحدث في السودان.