19 ديسمبر، 2024

خطاب مزعوم لجمهورية جديدة.. مفاهيم ملتبسة

image_pdf

خطاب مزعوم لجمهورية جديدة.. مفاهيم ملتبسة
سيف الدين عبد الفتاح
عربي 21

من أبرز سمات منظومة الثالث من يوليو وخطابها السياسي، أنها اعتمدت لنفسها خطاباً لا يتسم بأدنى قدر من المعقولية، يعبر عنها، ويصدق عليها، مما أثبت سمات خاصة بها لم يسبقها إليها أحد. وهو خطاب موغل في الاستهانة والاستخفاف، لا يعترف بأي أحد، أو علم، أو منهج، يخاطب الناس كأنهم لا يعلمون شيئا، ويفترض ألا ذاكرة لهم ويفترض فيهم الجهل والغفلة، وهو الوحيد الذي لديه العلم والمعرفة.

وقد سبق وتناولنا هذه الظاهرة في أكثر من موقف ووصفنا قائد هذه المنظومة بأنه “أبو العُرّيف”، ذلك الذي لا يأبه لمنطق أو حجة؛ إن قوله وعمله في حد ذاته هو الحجة والبرهان؛ لمَ لا وهو “طبيب الفلاسفة”، والذي يفترض أنه يعلم ويفهم كل شيء ويفتي في كل شيء، ويختار من الحلول أسوأها، ويصفها بأنها الأفضل والأكمل، وأنه اختارها اختياراً لأنه يعلم أنها الأنسب من غير دراسات جدوى، مع العلم بأنها لا تحتاج لدليل على أنها الأسوأ والأكثر تكلفة والأقل فائدة.

ومع ذلك يستمر في غيّه لا يوقفه أحد، يتمتع بقدرات فائقة على ممارسة الإنكار والاستخفاف؛ خصوصا وأنه يتعامل مع المعارضين له بأنهم أعداء الدولة والنظام ومن أهل الشر الذين لا يريدون خيرا به أو بالوطن، ولا يقبل أي كلمة من أحد غيره، بل يزعم أنه محط اهتمام واستماع من قبل العالم أجمع بخبرائه في كافة المجالات وأنه مُوصَى به. هكذا يبني قائد منظومة الثالث من يوليو شرعيته الخطابية على مقولته المُجّهَلة “ربنا خلقني طبيب أوصف الحالة، هو خلقني كده، ابقى عارف الحقيقة وأشوفها، ودي نعمة من ربنا، اسمعوها مني، وزعماء كل الدنيا، خبراء المخابرات، والسياسيين، والإعلاميين، وكبار الفلاسفة -لو حبيتوا- قالوا للناس اسمعوا كلام الراجل ده”.

انطلاقا من هذه المقولة تأتي هلامية خطاب نظام الثالث من يوليو وادعاء شرعنته رغم زيفه وجهله وتجاهله، وهو خطاب السلطة لا خطاب الناس، ينشغل بتأسيس السلطة وحمايتها، وبقائها إلى ما لا نهاية، فهو لا يتخيل نفسه خارج السلطة وكأنه مخلد فيها، وله تصريح خطير يقول فيه إنه في 2050 سيكون عدد الشعب المصري ما يقرب من 200 مليون نسمة، مؤكدا أن هؤلاء جميعا مسؤولين منه.

هكذا هو لا يرى مصر إلا وهو رئيس لها، إضافة إلى تحذيره من الاقتراب من كرسي الرئاسة، بقوله “لازم تختاروا كويس.. بأمانة المسؤولية، اللي هيقرب من الفاسدين يحذر مني، اللي هيقرب من الفاسدين من الكرسي ده يحذر مني.. لن أسمح له بالاقتراب من الكرسي”، “.. وهشيلوا من على وجه الأرض”؛ هكذا بصورة غير محددة لمن هم الفاسدون الذين سيمنعهم من الاقتراب من الكرسي. وتجربة الانتخابات الرئاسية التي خاضها في 2018 جرى فيها منع ثلاثة من المؤسسة العسكرية من الترشح في الانتخابات، وبالتالي الأمر يتأكد لنا أنه خطابه بالأساس لحماية السلطة وتدعيمها، نعم السلطة الفردية فقط، فهو لا يقبل أن يكون هناك أي طرف آخر محتمل للمنافسة على الكرسي إلا من يختاره لاستكمال المشهد الكاذب الذي يقنع به المغفلين أنه يملك شرعية أو قبولا، يقوم كل ذلك على صناعة الصورة وترويج سرديته الكاذبة الخاطئة لتجميل الصورة وتحسين القبيح.

هذا هو خطاب السلطة، أما عن خطابه للناس فهو لا يخرج عن ثلاثة؛ “استحملوا، أو جوعوا، أو غوروا”، سواء أتى منه بشكل مباشر أو من زبانيته؛ أو في أقصى انفتاحه على الناس يطالبهم بالصبر عليه؛ “اصبروا عليا سنتين، اصبروا عليا ستة أشهر، اصبروا عليا هذا العام”، وصولا إلى تقديم وعود مزعومة زائفة موهومة للناس وللجماهير؛ من خلال أحد زبانيته يزف الرخاء الآتي على العباد والبلاد؛ “اعتبارا من العام القادم -في 2020م- عام ذروة الخير؛ ياقوت، مرجان، بتنتج غاز بكثافة، بترول بكثافة، دهب، دي النقلة الحقيقية للشعب، مصر بكرة”.

وعندما مرت هذه الأعوام في ضنك شديد لم نجد من السلطة وزبانيتها إلا “اصبروا علينا”، ” السبب كورونا أو أوكرانيا”، في الوقت الذي صدرت فيه التقارير الدولية تؤكد أن السبب في تدهور الأوضاع في مصر نتيجة للإدارة السياسية وسياسات الاقتراض غير المنضبطة التي تتبعها منظومة الثالث من يوليو. إلا أن المنظومة تصر على أن السبب هم المصريون وأن عدد السكان الكبير هو المسؤول عن هذه الأوضاع. ولا يمكن لأحد أن ينسى تصريح السيسي الشهير الذي يكرره بشكل سنوي على مدار السنوات الماضية “أنت فقير قوي، محدش قالك إنك فقير قوي، ياريت حد يقولكم إن إحنا فقراء قوي.. فقراء قوي.. اسمع الكلام”.. “الشيطان يعدكم الفقر”، ومع ذلك نجده يناقض ذلك إذا ما كان الخطاب يعنيه هو وسلطته؛ فنجده يصرخ متفاخرا بالإنفاق غير المحدود وأن ذلك صورة مصر وكيانها أمام العالم، ومن ذلك تبريره لبناء القصور الرئاسية بقوله “أيوة ببني وهبني وهبني.. ومفيش حاجة باسمي كله للدولة”.

هذا هو خطاب نظام الثالث من يوليو الذي يبشرنا بجمهوريته الجديدة المزعومة؛ بما له من سمات المهانة والاستهانة والهوان، فنجده يتسول المساعدات، ويطلب من المذيع إتاحة الفرصة له قائلا: “استنى يا فيصل، سيبني بس يا فيصل، دا أنا ما صدقت يا فيصل”.. هكذا يعبر قائد الانقلاب عن صفحة في التاريخ المصري، هي للنسيان، لا أحد سيحب أن يتذكرها في المستقبل على الرغم من أنها ستكون لها آثارها المدمرة التي لن تمر مرور الكرام. فصورة الرجل الذي أهان مصر وغيبها عن مكانتها ومكانها في العالم والمنطقة، ستظل علامة على هذه الحقبة من التاريخ المصري، ستظل تعبر عن مرحلة التراجع والهوان التي مرت بها مصر في عهده، والتي تنازلت فيها مصر عن مقدراتها الاستراتيجية والمائية والبترولية في سبيل أن يحظى بقبول الدول الأخرى ويتخلص من عقدة اتهامه بالانقلاب على أول رئيس مدني منتخب.

وهو لم يتخلص من ذلك بل أضاف له كل ما ارتكبه من جرائم في سبيل الخلاص من ذلك. وفي مقابل هذا الخطاب المهين أمام الخارج نجده على العكس من ذلك في مواجهة المواطنين المصريين، فنجد خطابا فاشيا فاجرا فاسدا فاشلا، يدين المواطنين ويتهمهم بكل نقيصة ويفخر بكل جريمة يرتكبها؛ مبررا لها بأنها لصالح الدولة ولمستقبل الوطن.. كذاب أشر، لا يستهدف إلا مصالحه الفردية والخاصة به وبنظامه وزبانيته وتأمين كرسيه، يبرر لهم الفشل ويتهم المواطنين بالتقصير أو بالتسبب في الأزمات التي تمر بها البلاد والعباد.
ولا يمل من اتهام ثورة يناير بكل نقيصة وأنها السبب فيما وصلت إليه البلاد من أزمات اقتصادية، في الوقت الذي يتجاهل فيه أنه مر على ثورة يناير ما يزيد عن اثني عشر عاما؛ هي كفيلة بأن يكون المجلس العسكري الذي أدار البلاد وكان هو عضوا فيه، والسنوات العشر الأخرى التي كانت البلاد فيها بإدارته المباشرة والكاملة، والأموال التي حصل عليها من الخليج تسولا وقروضا، وكذلك الأموال والقروض التي حصل عليها من العديد من الدول الأخرى.. كافية للقضاء على كل الأزمات التي تعرضت لها مصر، ولكن النتيجة في عهده أن تراكمت الأزمات وتفاقمت المشاكل وتضاعفت الكوارث.
إن خطابا لا يهتم إلا بالترويج للاستقرار الزائف والرضا الكاذب، والافتخار بأن البلاد لم تتورط في حرب أهلية، وهو ادعاء ومبرر لا يسنده دليل بل قام على التزوير والافتراء، أو أن يتبرأ من مسؤوليته عن الهجرة غير الشرعية للمصريين طالما أن قوارب المهاجرين لم تخرج من الشواطئ المصرية.. لهو خطاب الوهم والأوهام، وخطاب الإنكار والأزمة والتأزيم، خطاب الجمهورية الجديدة التي تعيش على مشروعات موهومة “الفنكوش”، وتفتخر بأن لديها أكبر مسجد وأكبر كنيسة وأكبر برج وأطول نهر صناعي وأكبر مدينة للملاهي، يقوم بتمويلها بالديون والقروض وبيع الأصول، إنها الجمهورية الجديدة وأوهامها وخطابها الزائف والمزيف.

 

Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *