في مسألة المنهج وخرائط الفكر العربي الإسلامي
آراء
سيف الدين عبد الفتاح
العربي الجديد
09 ديسمبر 2022
يشغلني المنهج العلمي ودارسوه على الدوام، وكنت أرى، ولا أزال أرى، أن واحدة من مشكلات الفكر السياسي العربي والإسلامي الأساسية التهاون بشأن المنهجية العلمية في النظر والتداول، إلا أن لهذه الحال استثناءات مشهودة، تتمثل في جهود رواد أمثال حامد ربيع وطارق البشري ومنى أبو الفضل وغيرهم. يواصل أنور خالد الزعبي ذلك الاهتمام، وهو باحث قدير انشغل في حياته العلمية بالمسألة المنهجية، وقدّم فيها إسهاما متميزا تمثل في ما يزيد على أحد عشر كتابا انشغلت في جلها بإشكالية المنهج والمعرفة في الفكر العربي والإسلامي، ورسم خرائط تيارات الفكر العربي والإسلامي بصورة لافتة. وتهتم هذه المقالة ببيان هذا الجهد، خصوصا في كتابيه “مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي والإسلامي” (دار الرازي للنشر والتوزيع، عمّان، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، 2007)، و”تيارات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وتحولات العصر وتداعياته” (منشورات البنك الأهلي، عمّان، 2007)، حيث رسم فيهما خرائط الفكر العربي والإسلامي على مستوى الأفكار والقضايا والمفكّرين، محاولا تلمس الرؤى المنهجية والإسهامات التي شكّلت مسار تطور هذا الفكر وبصمته الوراثية التي تميّزه، خصوصا أنه كان يؤمن بأن النظام المعرفي موجود، ويتمثل بإسهامات المفكرين البارزين في تراثنا، ابن حزم، الغزالي، ابن خلدون، ابن تيمية، وغيرهم، وإنْ يكن يحتاج إلى مواصلة الدراسات التي تكشف عن نظراتهم المعرفية ومناهج البحث التي اعتمدوا عليها، مشيرا إلى أن هذا النظام مستمدٌّ أساسا من الشريعة الإسلامية والاستفادة من الحضارات الأخرى، ومعالجة أولئك المفكرين لها، وما قدّمته هذه العقول من خلال مؤلفاتها النقدية الهائلة.
اهتم الزعبي الذي تقلد مناصب مرموقة في وزارة الثقافة الأردنية بالمسألة المنهجية اهتماما واعيا، شغله طوال حياته، وعمد إلى متابعة تطوراتها وتبيئتها بقدر الاستطاعة، فهو يرى أن أهمية المنهج تتركّز في صلب العمليات المعرفية وعمادها، ولا تكون المعرفة فاعلةً منتجةً متطوّرة باستمرار إلا ببيان الخطوات المتبعة في إقامتها وكيفية التحقّق من سلامتها، مؤكّدا على أن المنهج يلعب الدور المركزي في تطوّر العلوم والمعارف، وأن كل تقدّم حصل في الحقول المعرفية يعود إلى تقدّم علم المناهج، وقد أبدع في تقديم محاولاتٍ منهجيةٍ جادّة منها ما تعلق بجدل الوعي والمادة، مبينا فيها كيفية قيام تصورات الثقافة والفكر والحضارة والجدلية التي تحكم مسيرة الإنسان المعرفية العلمية أو النظرية والسلوكية، ومنها ما يعنى بالكيفية التي ينبغي معالجة التراث وفقا لها، وسماها “منهجية إعادة القراءة والنظم والاستشراف” بيّن فيها الكيفية التي ينبغي النظر من خلالها إلى التراث ومعالجته وتجاوزه إلى آفاق واعدة.
ولعل من أبرز المراجعات المستفيضة لكتب أنور الزعبي ما قدّمه الباحث المتميز، محمد سلام جميعان، الذي رصد الإشكالات التي تناولها الزعبي في كتابيه المشار إليهما، مبينا أنهما جاءا مكملين بعضهما بعضا، موضحا أن الكتاب الأول “مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي” استوعب واستجمع المسائل المتعدّدة التي عُني بها المفكرون المسلمون وجهودهم المعرفية والمنهجية في مختلف حقول الفكر الإسلامي ومشتملاته من المعارف والعلوم ومواطن اختلاف أو اتفاق كل مفكّر عن آخر، واستثمار ذلك كله في المسبرة الحضارية العربية الإسلامية نزوعا إلى مستقبل أفضل يأخذ في حسبانه تحوّلات العصر والحداثة والتحديث. وبين جميعان كيف قدّم الزعبي تأصيلا منهجيا وتنظيريا للتحوّلات التي أحدثها بروز الإسلام في الحياة العربية ورصده جهود المفكرين في تناول ذلك بأفق وأمد وتطورات لافتة، مرورا بقضايا وأطروحات معرفية ومنهجية عديدة، وصولا إلى صياغته سيرة الاستعادة واليقظة والنهضة، مبيّنا فيها ما جرى من إعادة نمذجة القضايا، بحيث يتآزر فيها التصالح بين القديم والمحافظ والجديد الإصلاحي بخيارات مسوّغة، يمكن تمثلها في الواقع، مستعرضا تجارب بعض الحركات الإسلامية وتماهيها بالسياسة، ما أدّى إلى تحريك الواقع باتجاه مشروع الإعادة والاستئناف، متوقفا عند جهود رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، على اعتبار أنها نقلت مستوى المسائل من مجرّد الاستعادة وإزاحة التراكمات إلى الاستعارة والاستفادة.
وفي كتابه القيم “تيارات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وتحولات العصر وتداعياته” يبدأ أنور الزعبي بما انتهى إليه في كتابه السابق، من خلال افتتاح الكتاب الجديد بالفصل الأخير في الكتاب السابق، حيث يركّز على سيرة الاستعادة والاستئناف، مستبعدا النزعة التحريفية التي تذهب مذهب التوفيق والتلفيق بين توجهات عديدة إسلامية وغير إسلامية، خصوصا التي تحاول التوفيق بين الإسلام والقومية. كما يتناول الكاتب مستوى الوعي بالآخر والذات لناحية الأصول الفلسفية للحداثة وما بعدها وما يتصل بها من مفاهيم، كالعقلانية والعلمانية والعدمية والذكاء الصناعي والعبثية، وغيرها من مفاهيم ذات بعد فلسفي تلقى رواجا وترويجا لها من النخبة المثقفة من دون مرجعية أو مراجعة، ما ضاعف من حجم الإشكالات التي تصاحب دعاوى الحداثة، في الوقت الذي يحرص فيه على نقدها مبيّنا استغلالها مفاهيمها استغلالا أيديولوجيا بغير ضرورة منطقية.
ولا يكتفي بعملية النقد، ولكن يكشف عن طبيعة تموضع المعرفة والعبادة في الشريعة، مبيّنا أن الشريعة تتأسس على ما هو عقلي منهجي، والعبادة تتأسس على ما هو معرفي، ويرى أن ذلك هو ما دفع بالتجربة الإسلامية إلى الترقّي والتسامي نظريا وعمليا، وأوصلها إلى مرتبة القدوة التي احتذتها أمم وشعوب كثيرة بقيت على اعتقاداتها الدينية المنحرفة على نحو ما أفادت منها التجربة الأوروبية في العصر الوسيط، ولا يكتفي بذلك، بل يؤكد أن التراجع والنكوص المؤسف في حالة الأمة العربية الإسلامية مردّه إلى تقليص مساحة ارتباط المعرفة بالعبادة، بل ومحاولة فصلها بعضهما عن بعض.
ويطرح الكاتب سؤالا مهما حول كيف نسعى إلى تحديث الفكر العربي الإسلامي منهجيا ومعرفيا، وهو في ذلك ينتبه إلى المنظومات الفكرية العربية والإسلامية وغيرهما من الديانات والحضارات الأخرى، مبيّنا أن لكل منظومة دورها الفاعل، الأمر الذي يدفعه إلى مناقشة تلك المنظومات أو أجزاء منها وفحصها ونقدها وفق جدلية ما هو عربي صرف، وما هو إسلامي محض، منوّها بأثر المصادر غير العربية وغير الإسلامية في تشكيل مفهوم الفكر العربي الإسلامي. ويستكمل الكاتب رؤاه النقدية لتحوّلات العصر، وخصوصا ظاهرة العولمة ومظاهرها وأسبابها وجنايتها على سير البشرية، ما يدفعه إلى الحديث عن أنسنة العولمة، كما انشغل بظواهر العلمنة وما يرتبط بها وانعكاساتها على مسألة الحداثة والتحديث التي يتطلب الولوج فيها والاستجابة لها شروطا تتصل بالمفكّرين والبيئة الاجتماعية واستجماع القوى الإنسانية للأفراد والمجتمعات، على أساس من التعايش والتفاعل والتعاون القائم على أسس وتشريعات تنظم هذه المهام والمطلوبات.
يقدّم أستاذ الفلسفة معالجة للتحديث تنطلق من رؤية متصلة بالتاريخ الحضاري، ومرتبطة بتأصيل فلسفي يقوم على رؤية تأسيسية ترى أن نزاعاتنا الثقافية والفكرية والحضارية تعود، في الأصل، إلى تباين فهمنا واستيعابنا الأدوات التي تضطلع بها النمذجة والمنهجة والأدلجة، وتأكيدا على مكانة المنهج في منظومته الفكرية يختم بالحديث عن المنهج مسترشدا بخطوات تبتغي الوصول إلى نموذج يمكن تحقيقه، مفسرا تشابك الفكر العربي الإسلامي بالتطورات السياسية الدولية بوجود مؤثر فاعل في كثير من القضايا الإسلامية يتمثل في العقيدة التي يمكنها أن تلعب دورا في الاحتواء ومواجهة الأزمات المصنوعة، مشيرا إلى الطرق والمسالك التي انتهجتها الدول العربية والإسلامية، وكيف أنها أثبتت فشلها، عدا عن المقاومة التي يراها إذا انضبطت واتسع نطاقها تحقق للأمة تأطير التوازن بين المبادئ والمصالح. ومن الممكن إذا ما تم إيجاد “عولمة مؤنسنة” قد نصل إلى نموذج معياري يحقّق مصلحة جميع الشعوب في الاستقلال والعدالة والمساواة وحرية الرأي… رؤى جديرة بالاعتبار يجب التوقف عندها.
اترك تعليقاً