18 ديسمبر، 2024
image_pdf

من أنت؟

من أنت؟

الجميع يتحدثون عن الظروف الحياتية أو الأنساب أو الأماكن أو الجماعة الدينية أو العرفية أو الجنسية.

لا أحد يتحدث عن نفسه؟

من أنت؟

هذا من أصعب الأسئلة.

أنت..

أنت ذات لها وجود متفرد، خريطة من المفاهيم والمشاعر والأحاسيس التي قد لا يعرفها سواك، لذا قد يصدمنا تصرف البعض بعد أعوام من التعارف، فقد كانت تلك الذات متخفية وراء حجاب المظهر والمجاملة لكن الأيام نكشف وجوهًا أخرى لم يكن أحد يتحسبها .. تكشف طبيعتها المواقف والأزمات.

وأنت ..

أنت تاريخ مركب، مسيرة من العمر لها أيضًا طابعها الفريد، وعلاقتها بأزمنة متراكمة، وذكريات تحدد التصورات وخبرات تصوغ المواقف والقرارات، بوعي أو من دون وعي. وما بين التاريخ الفردي والاجتماعي وطبقاته العميقة وقشرته الخارجية، والتعامل مع الزمن والوقت، والرؤية للمستقبل تتشكل شخصية الإنسان.

وأنت..

أنت ذات تدور في مكان بل أمكنة صنعت تلك الشخصية في بعدها المادي، من بادية أو ريف أو حضر، من مساحة شاسعة كنت تلعب فيها أو مكان ضيق كنت تعيش فيه، ترى الشمس أو تظلم في عينك الصغيرة الدنيا لأن نافذتك تطل على نوافذ أخرى ينتهك بعضها خصوصية بعض، مساحات تنوعت وأنت تحبو وتمشي وتجري وتسافر، مجالات للبصر وفضاءات للعقل تتشكل منها مساحات النفس في أعماقها .. وينمو مفهوم البيت والوطن والعالم .. وينمو معه مفهوم الهوية.

وأنت …

أنت عقل يستكشف العالم، يضع لنفسه تصورًا عن الأشياء والبشر، ويدير آلة الجسد واللغة والمشاعر في تناغم، أو ربما يربك التناسق حين يهمل دوره ويعطل قدراته ويترك الجسد والمشاعر والظروف تدير حياتك، أو يطغي حين يضخم من قدراته فيستعلي ويستكبر ويزعم أن الرأي الواحد أكثر رشدًا من رأي الآخرين، هذا العقل الذي قد يحملك إلى عالم العباقرة، وقد يبقيك بين قطيع المستلبين المسلّمين القيادة لعقول الآخرين والمستقيلين من التفكير والإرادة والفعل.

وأنت .

أنت لغة، منطق للتفكير وأداة للتعبير، أو لغات تبلبل الألسنة وتربك الوعي بتداخل الدلالات، لغة لسان ولغة وجدان، ولغة جسد يعبر عن الداخل لكنه يرسل إشارات إلى الخارج تفصح عنك.

وأنت ..

أنت جسد يتحرك ويسعى، علاقتك به توازن  أو تجاهل أو تمركز حوله، وهو تعبير عن مفاهيم ووعي وذاكرة وتاريخ ، كيف تسكن في هذا الجسد؟ وماذا تفعل به؟

أنت كتلة من المشاعر تنقسم حول تركيبها أنماط من الشخصيات، بعضها بارد وبعضها متدفق دافيء، بعضها نفعي أناني بخيل وبعضها مفرط في الكرم والعطاء، ما مشاعرك تجاه نفسك أولًا؟ وهل تحب هذه النفس لتنطلق بها إلى العالم أم تحبها وتكره العالم أم تكرهها وتدمر العالم؟ ذاتك العاطفية هي القلب النابض فيك، قد تترقى في العلم والعمل، لكنك تظل فقيرًا في عواطفك هشًا في مشاعرك، طفلًا في انفعالاتك، وقد تغنيك ذاتك العاطفية برأس مال من العلاقات يعوضك عن قلة المال أو فقر الأمكنة.

وأنت..

أنت عضو في مؤسسات من الأسرة إلى مكان الدراسة أو العمل، إلى النادي والمسجد والنقابة والدولة.

ذاتك تشكل هذه المؤسسات لأنك طرف فاعل فيها، لكنها أيضًا تعيد تشكيلك، من الأسرة التي تقوم بغرس المفاهيم، إلى المدرسة التي قد تكرسها أو تزرع مكانها مفاهيم أخرى بديلة أو معارضة، إلى المسجد الذي قد يحملك إلى السماء أو يبقيك في الصف بين الناس جسدًا بلا روح، إلى القبيلة التي تدخلك في زمرتها أو المذهب الذي يمنحك قوة التضامن أو يحرمك حرية التفكير المستقل، إلى الدولة التي تحدد لك في أحيان كثيرة حركتك ورؤيتك ومجالات مشاركتك أو تمنعك من هذا كله .. وتطلب منك الطاعة والولاء.

وأنت ..

أنت كائن له علاقة بالغيب، هل تؤمن به أم تتجاهله، هل تدخله في حساباتك مع ذاتك أم تكتفي برمزيته في حياتك من دون أن يدل الرمز على جوهر، هل تحوله إلى طاقة خلاص لك وحدك فتدور به حول كعبة أنانيتك أم تجعله طاقة تطلقها في الكون لتسير في مدارات الخلق وتغير به العالم.

وأنت…

أنت ذات تناضل اليوم في عالم يموج بالآلات، ضوضاء صوتها ووتيرة سرعتها تفقدك عقلًا وروحًا وجسدًا وقدرتك على التقاط أنفاسك، وتصبح الآلة هي الوسيط بينك وبين العالم وحجابًا جديدا على الذات يربك من حولك ويجعل محاولة فهم الذات وفهم العالم أصعب . المعلوماتية في حد ذاتها لا تقدّم رؤية إلى العالم ولو نزلت في محيطها توشك أن تغرق، ذاتك المتماسكة هي قارب النجاة، ووعيك بهذه الذات هو الذي يرشدك، فأنت لا تتحقق ولا تكون بمحض آلات تستخدمها فتستخدمك .. بل أنت قبل الآلة ومن دون الآلة وفوق الآلة .. أنت ذات لا تضيف إليها الآلة قيمة .. ولا ترفع من شأنها إذا كانت هي في أصلها مبعثرة متشظية.

من أنت؟ من أنت؟

“تحدثي عن نفسك” سألني البعض فأصمت.

من الصعب أن أتحدث عن نفسي .. قد أحتاج إلى عمر كي أفهمها قبل أن أبدأ في الحديث عنها.

وقد أتحدث وأنا لم أعرفها بعمق بعد، وقد أسعى إلى الإمساك بالمعنى لكنه يفلت مني، وأتغير وتتغير اللغة، وأحاول من جديد.

أحاول أن أفلت من المأزق بأن أطلب من الآخرين أن يتحدثوا هم عن أنفسهم، أبادر بالسؤال قبل أن يباغتني به أحد .. فيفعلوا .. ويستفيضوا .. كلام كثير عن كل ما حولهم، لكن .. لا شيء عن أنفسهم، ثم يذهبون .. ويقولون بعدها نعرفها جيدًا، فلا هم عرفوني ولا أنا عرفتهم.

من أنت؟

من أنت؟

سؤال مفتوح على الكون، ومبني للمجهول: أنت.

 

Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *