نحن .. ورمضان
أ.د.هبة رءوف
كثيرًا ما نظن أن النفس ومراتبها وأحوالها رهينة بالإرادة الفردية وحدها، وأن الإنسان لو أراد أن يؤدبها ويطوع النفس الأمارة بالسوء فما عليه إلا أن يروضها ـ بينه وبينها ـ فتنصلح الأحوال، ويظفر في نهاية الأمر بنفس مطمئنة، وأن العبادة الفردية المحضة هي السبيل لتلك المهمة.
والحق أن القارئ المتأمل في كتاب الله والدارس للسيرة النبوية ودروسها الإنسانية، ومقاصد الشرع وقواعده وحكمته الربانية يدرك بجلاء أن النفس كما أنها أمانة فردية فإنها نتاج روابط اجتماعية وعلاقات تفاعلية تتأثر بها وتؤثر فيه، لذا تكرر استخدام لفظ “أنفسكم” بصيغة الجمع في القرآن. ومن هنا فإن الإصلاح والفساد بمفهومهما الواسع لهما مستويان: فردي وجماعي، والدوائر بالغة التركيب والتشابك، وميزانها فريد.
القرآن يكرر كما ذكرنا لفظ “أنفسكم” للدلالة على أن هناك “نفس” الفرد و”أنفس” الجماعة الإيمانية، وأن العدل والظلم والقسط والجور، تنتشر في دوائر المجتمع سلبًا وإيجابًا، ولا يتم التغيير للقوم إلا بتغيير ما بأنفسهم فرادى وجماعات، وأن تغيير النفس قد يعين عليه صلاح الجماعة ويعوقه فسادها، ومن هنا حكمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الاحتفاظ بحق الفرد في مساحات الخصوصية وقراراته الشخصية، والتوازن والتمييز مسألة تحتاج إلى دقة بالغة لذا وصف الله الشرع بـ “الميزان” فإذا اختل ضاع العدل.
والجماعة ليست فقط مجموع الأفراد، بل عالم الأشخاص في تفاعله مع عالم المؤسسات والأحداث والعلاقات، وكذلك تعامله مع الهياكل الحديثة من أبنية اقتصادية واتصالية تشتبك بشكل لصيق بالفرد والجماعة فتغير من ملامح الثقافة وتبدل الفطرة أحيانا ليعم الفساد، والأخطر هو أن يتم التطبيع معه.
وإذا كان السوق يقوم على استهلاك كل ما هو منتَج، فإن حكمة رمضان تتمثل في التحكم في السوق وفي الاستهلاك كي نضمن ألا يتم الاستهلاك للإنسان ذاته في ظل ثقافة تزن الفرد بما يملك ويستهلك لا بما يحوز من فضائل أو رأسمال اجتماعي وأخلاقي.
رمضان تهذيب للرغبة وترويض للهوس بالأشياء والمتاع، وشحذ لهمة الروح كي يتوازن الكيان الإنساني ويتم جلاء الفطرة من أدران الحياة اليومية العادية وإيقاعها اللاهث.
فالإنسان الذي يقضي جل يومه في مناخ البيع والشراء والاستهلاك والصور الإعلانية ويستلبه عالم الأشياء يحتاج إلى وقفة وعودة إلى عالم الذات لينفرد بنفسه، واستقامة لعالم الأشخاص ليتواصل، والصلاة مع صف الجماعة، فالروح التي أغرقتها المادية الطاغية تطفو وتشرق مرة أخرى بالذكر والتقرب إلى الله بالطاعات.
رمضان شهر عودة الإنسان إلى ذاته وتأمله في أحواله، وتواصله مع ربه ليسجد ويقترب … ويعود إلى مجتمعه ليصل ما انقطع … وليربط ما انفصم.
فإذا صار رمضان سوقًا للطعام، وشهرًا لتزايد مبيعات السلع، وتفننًا في مخاطبة الشهوات بعد صلاة المغرب وارتيادًا لأماكن اللهو واللغو .. فإننا نكون كالذي استجار من الرمضاء بالنار … ونكون قد خسرنا رمضان.
رمضان أيضا فرصة لأن ننفرد بأنفسنا، ففي ظل سباق جري الوحوش عادة ما نستيقظ لنقفز إلى الشارع نسعى ونكد من أجل لقمة العيش، نغالب الحياة وتغالبنا، ونعود لنتابع تفاصيل الأمور الأسرية ودروس العيال ومشكلات الجيران والأقارب، وندلف إلى فراشنا شبه قتلى من التعب، أو ربما “نسقط نائمين” من شدة الإعياء، فتفوتنا في كل يوم فرصة الجلوس إلى النفس وطمأنتها، ونغترب عن ذاتنا، وحين نجد فرصة للهدوء نفتح أي جهاز آلي وكأننا نريد أن ننشغل عن أنفسنا.
رمضان فرصة للانفراد بالنفس بين يدي الله، واستئناف الحوار الداخلي الذي انقطع مع النفس اللوامة .. ذلك الضمير الذي خبأناه تحت طيات الهموم والمشاغل، وفرصة لترويض النفس الأمارة بالسوء كي نواجه أنفسنا بما نحذر ونتجنب، ونتوب إلى الله من كل معاصينا، كي نخرج من هذا الشهر أكثر صدقًا وصفاءً وإخلاصًا.
رمضان شهر هدى وبينات، ومغفرة ورحمات، وجهاد نفس واستعادة السلام مع الناس ومع الذات.
رمضان كريم
اترك تعليقاً