في البدء كان السؤال
ميز الله الإنسان بالعقل .. وبه حرره: بالسؤال وبالاختيار بين نعم ولا.
فالحرية في القرآن كامنة في صيغ السؤال، وفي حركة العقل نحو المعرفة من أجل حرية الاختيار، ولا نبالغ إذا قلنا إنه: “في البدء كان السؤال”.
قبل “كُن” كان الخبر: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30) وجاء سؤال الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة: 30) ثم كانت (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (البقرة: 117) وعلم الأسماء، ولا تقربا، وعصى آدم، وتاب عليه وهدى، ثم اهبطوا، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم.
وسنة الله في الخلق: ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم.
ولم يكن طرد إبليس من الرحمة لأنه قال “لا” بل لأنه أبى واستكبر وقال (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) (الأعراف: 12) ثم حسد فقال (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) (الحجر: 39) وتجاوز وقال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ) (النساء: 119).
وعهد الفطرة الذي أخذه الله من ظهور بني آدم قبل خلق الأجساد كان سؤالا وجوابا: ألست بربكم قالوا (بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا)(الأعراف: 172) .
فالحرية تأتي عبر التفكر والتدبر والعقل والعلم، لذا فإن الـ “لا” في القرآن تنفي العقل والعلم عن الكافرين والمشركين وتحث عليهما المؤمنين، والـ “لا” الجاهلة ليست مقياسا للحرية، بل السؤال المستمر هو سبيل التحرر، لتتجدد الإجابات، ويستمر تدفق نهر المعرفة عبر “إقرأ”.
ونقرأ “أفلا” بيانا للسنن والآيات، وتذكيرا بالنعم وبالمعجزات، وتعجبًا من الإعراض، وإشارة إلى البيانات. والسؤال كان يستدعي الوحي .. والجدل كان مناسبة للتنزيل، والشكوى تستدعي الرحمة، وتبين الحدود.
والسؤال مصدر فهم الوحي، وآلة الاجتهاد، ونقيض الاستبداد الذي تخرس فيه الألسنة وتصبح الطاعة عمياء وخرساء.
موسى سأل الله: أرني أنظر إليك، وقبل الله منه السؤال، وأوضح الاستحالة، ثم ضرب للعقل المثال: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143).
إبراهيم سأل: كيف تحيي الموتى؟ ورد الله على السؤال بسؤال: أو لم تؤمن ؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، فكانت التجربة برهانًا .. عين اليقين.
وسؤال الله للعبد لوم وتذكرة (أَرَأَيْتُمْ) .. و(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ) (الانفطار: 6) رحمة ونداء.
ويوم القيامة لا تتافي حرية السؤال، ولا تخرس الألسنة .. بل تخشع الأصوات: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) (طه:125-126).
ما لنا لا نرى رجالا كنا نظنهم؟
فالحرية ليس مناطها اللسان يتفوه بـ “لا” فقط، بل مناطها عقل يطلق أسئلة مجنحة، وقلب يقينه مسكون بأسئلة متجددة تشحذ الإيمان، لذا كان الفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد. ولأن الله لا إله إلا هو فلا فضل لعبد على آخر إلا بالتقوى، ولأن التقوى محلها القلب، ولا يعلم الغيب إلا الله، فالشهادة مسؤولية ومحاسبة، وقسط وسواسية، وطاعة لا تقترن بمعصية، وتقويم نحو الاستقامة، وتوحيد الإنسان لله تحرر من عبودية ما سواه، وبها تنطق “لا” في وجه الظلم، والذي يكذب بالدين هو من (وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الحاقة: 34).
الخلافة في الكون نهي عن المنكر وأمر بالمعروف، هي “لا” ضد البغي، و”لا” ضد الغلو، و”لا” ضد العدوان، و”لا” باللسان وبالفعل، والحركة من أجل التغيير، وآيات “قل لا….” في القرآن تحمل في قلبها حرية، وخطاب الله للمؤمنين “لا تكونوا كـ ….” يحمل في قلبه حرية، وسؤال: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) (النساء: 75) يحمل رسالة حرية سياجها: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، فـ… و(وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران: 102).
اترك تعليقاً